المدوّنة

العودة الى القائمة

أهل السينما: لقاء مع ميس دروزة

04 مارس 2014

يجسّد فيلم ميس دروزة “حبيبي بيستنّاني عند البحر” تصوّر المخرجة الشخصي والرائع لعلاقتها بفلسطين، حيث تغوص في مواضيع الحب والضياع والاشتياق والحنين لأرض الوطن التي لم تزرها يوماً. في سياق الفيلم، نراها تمضي وقتاً في التحدث عن اعتباراتها الشخصية عن فلسطين، وتكمّلها بفن وقصائد المرحوم حسن حوراني (الذي توفي في ظروف مأساوية)، كما تظهر لنا العديد من الفلسطينيين وأشكال المقاومة الشخصية التي اعتمدوها في وجه الاحتلال. والنتيجة هي رؤية تأملية توضّح كيف أن الفرصة متاحة لنا كلنا لبناء حياتنا الخاصة بحسب شروطنا الخاصة.

سيتم عرض الفيلم هذا المساء في بيروت، وهو الحدث الافتتاحي لأسبوع السينما الذي ينظّمه الصندوق العربي للثقافة والفن. ويتخلّل أسبوع السينما عروضاً لـ 11 فيلماً قام الصندوق بدعمها خلال العامين المنصرمين، علماً أن كافة الأفلام هذه تعرض للمرة الأولى في بيروت خلال الاحتفال. وفي هذا الإطار، تفتخر مؤسسة الدوحة للأفلام كونها قدّمت الدعم لعدة أفلام في البرنامج، ومنها “حبيبي بيستنّاني عند البحر” و“طيور أيلول” للمخرجة سارة فرنسيس و“أمواج” للمخرج أحمد نور.

لقد شرّفني التحدث إلى المخرجة ميس دروزة بعد العرض العالمي الأول لفيلمها خلال مهرجان تورونتو السينمائي الدولي في سبتمبر الماضي. وإليكم بعض أجزاء من هذه المحادثة:

نيكولاس ديفيس: يوثٌّق هذا الفيلم أول زيارة لك إلى فلسطين. أود أن أعود إلى الوراء قليلاً وأسألك كيف اتخذت قرار الذهاب إلى هناك؟ كيف خطر ذلك على بالك؟

ميس دروزة: أظن أن السفر إلى فلسطين هو من الأمور التي تخطر على بال كل فلسطيني. إنها فكرة تربّينا عليها، فكل القصص تبقى في ذهنك على مدار الساعة. ذلك البلد هو بلدك ولكنك لم تره يوماً. وبالتالي فإن قرار الذهاب ليس بأمر يخطر على بالك فجأة عندما تبلغ سن الرشد. ولكن الموضوع الأساسي هو لوجستيات السفر. فأنا مثلاً لا أملك الهوية الفلسطينية (أعني الأوراق)، أما أسرتي فقد تجنّست في الأردن. الصعوبة كانت دائماً في الأمور اللوجستية، ولكن برأيي، هذه كلها تفاصيل تقنية. في الداخل، كان هناك خوف من السفر.

ن.د: خوف؟ ما الذي كنت تخشينه؟

م.د: أرى ذلك بين كثير من الفلسطينيين. كنت أخاف أن أحقد، أن أرى أموراً فظيعة ويخيب أملي في البشرية. إن القصص التي تسمع حصولها في فلسطين رهيبة ومريعة. وفي الحقيقة، إنها تاريخي، لذا كنت أخشى اكتشاف هذا الشعور بنفسي؛ أخشى أن أصبح ربما شخصاً مجبولاً بالغضب. هذه الأمور كلّها من الأنانية. كنت أخاف أيضاً أن أقع في غرام هذا البلد، ومن ثم أضطرّ للمغادرة. كنت والدتي تقول لي دوماً: “لا تفكري الآن في الانتقال إلى فلسطين”. كانت خائفة، لأن الأوضاع صعبة هناك. ولكنني أظن أنها كانت تعلم بأنني سأذهب يوماً ما.

ن.د: وما الدافع الذي حثّك على القول “أنا ذاهبة الآن“؟

م.د: لقد ترعرعت على قصائد محمود درويش، إنها مفعمة بالطاقة، ولكنه من جيل الأشخاص الذين عاشوا أموراً كثيرة. وعندما فتحت كتاب حسن حوراني ورأيت أعماله، سمعت فجأة صوتاً جديداً يتحدّث إليّ مباشرة، وإلى الأفكار والعواطف الكامنة في ذهني. كان يتكلّم من مكان واهن جداً، بعواطف جداً بسيطة، وكأنه وحيد أو خائف. “حسن في كل مكان” هو كتاب للأطفال، ولكنه مثل “الأمير الصغير” بقلم أنطوان دي سانت أكسوبيري لا يتوجه فقط للأطفال. فعندما قرأت كلماته ورأيت وجهه – حالم للغاية وجميل للغاية – وسمعت قصته المأساوية، كان ثمة شيء في مزيج الصوت الذي كنت أحتاج لسماعه مع العينين اللتين أردت رؤيتهما، وفي الشاب الفلسطيني الذي حلمت به، الذي لا يهاب التكلّم عن أبسط المشاعر، عندما لا يبقى عادةً مكان لهذه الأمور. علمت حينها أنني سأقوم بعمل حوله. علمت أنه لن يكون صورة فنان، ولكنني لم أدرك شكل هذا العمل أو كيفية تنفيذه. وفي وقت لاحق خلال التأليف، عكست على الورق كثيراً من الأمور في باطني، والأسئلة التي كنت أحملها في داخلي بشأن فلسطين. كان أمراً مخيفاً بالنسبة إليّ. تعيش حياتك كلّها وفي قلبك حنين للمكان، وعندما تذهب إليه، تخشى خسارة كل ذلك. سوف تتغيّر رؤيتك وعليك أن تكون حقاً قوياً. عليك أن تكون مستعداً لرؤية هذه الأمور، وأن تستوعبها وتصنع منها شيئاً في ذهنك. أخذت أفكر أنه من غير العادل أن أتمكّن من تكوين صورة للذاكرة عن أي بلد في العالم، وألا أفعل ذلك بالنسبة إلى فلسطين. وهذا التفكير شخصي جداً، أنا أردت أن أشمّ وأتذوّق وأرى وأشعر بالمكان الفعلي لأرضي ذاتي فحسب، إذ أردت أن أجعل منها جزءًا من واقعي، من حياتي الواقعية الحقيقية. كان الوقت قد حان.

ن.د: هل أنت من صمّم المشاهد بالألوان المائية التي تجسّد رحلتك خلال الفيلم؟

م.د: أجل.

ن.د: إنها جميلة جداً، لأنها، من بين أمور أخرى، بسيطة للغاية. من أين أتتك هذه الفكرة؟

م.د: علمت أنني سأرسم عالمي الخاص. علمت أنني سأقدّم هذا العالم بصورة مرئية، ولكن السؤال كان: كيف لي أن أنفّذ ذلك في سياق عمل حسن، وأوضّح في الوقت نفسه الفرق بين عمله وعملي؟ اعتمدت هذا المفهوم منذ البداية: هناك غرفة وهي تمثّل عالم ميس. توجد في هذه الغرفة مجموعة من الرسوم والصور والأشياء التي نجمعها عادة، والتي تجسّد العالم الذي نبنيه. لذا فإن فكرة الرسم خطرت على بالي بعد أن أردت أن أبيّن للمشاهد أنني أخلق حبيباً أمام عينيهم مباشرة، وفي الوقت الحقيقي. أقول إنني أخلقه. “هذا الحبيب – أنظروا، إنني أرسمه. وهذا الخط الذي يبيّن أننا ذاهبون إلى فلسطين”. شعرت أنني بهذه الطريقة وبهذا الشكل البسيط، سأساعد المشاهد على إطلاق العنان لمخيّلته، لأن الحبيب يبصر النور أمام عينيه. أردت أن يجد المشاهد حبيبه الخاص، كما فعلت أنا. في إحدى المرات، جلست في غرفة ورحت أشاهد ثلاث صور كانت أمامي، وفكّرت كم أنه من الرائع والاستثنائي أن يقوم المرء باختيار قصتهم الخاصة. نحذف بعض الصور ونضيف أخرى. وكأنني أقول إن حياتي تتمحور حول هذه الصورة وتلك وتلك. هذا أنا، هذا شخصي، وهكذا أرغب أن أكون، ولي الحرية الشخصية لأقول ذلك، ولأي شخص الحرية ليقول: أريد أن أخلق هذه الحياة، لي الحق في هذه الحياة.

ن.د: من المثير بالاهتمام أنك تدركين وتعين الأمور إلى هذه الدرجة. وذلك مرتبط بالاشتياق إلى فلسطين، هذا الشعور الذي يفتقر إليه الكثير من الناس.

م.د: أذكّرك أن الاشتياق إلى فلسطين هو من خلال الصور بالنسبة إلى شخص مثلي، لم تكن الصورة مادية وواقعية أبداً. كل ما كنت أقوم به هو جمع الصور وجمع قصص من أشخاص زاروا البلد أو ولدوا فيه، مثل والدي. في الفيلم، توجد صورة للبحر. إنها بسيطة جداً، بدأت بها الفيلم وأنهيته بها. وقعت يدي على هذه الصورة منذ ثلاث أو أربع سنوات في دمشق قبل أن أفكّر حتى في الفيلم، وقبل أن أرى كتاب حسن. من الجهة الأخرى للصورة كُتب “يافا 1947”. أعطيتها لصديق وكتبت على الجهة الخلفية “هذه الصورة سافرت من يافا إلى دمشق. أتمنى أن تعود يوماً ما إلى مكانها الأصلي”.

ن.د: هذا رائع.

م.د: هذا رائع لأنّنا نشعر بحضور المصوّر. كما نشعر أيضاً بوجهة نظره. ]بالنسبة إلي[، الصورة هي ذلك الشخص، أو عائلته أو أحفاده. لذلك كما قلت، حياتي هي مجموعة من الأشياء التي جمعتها طوال حياتي. وقد حان الوقت الآن لأمنح بعض المنطق لهذه المجموعة.

ن.د: الثقل يصبح لايُحتمل.

م.د: يجب أن تحرّر نفسك. فقد سيطرت على دماغي صورة واحدة وكان لا بد من أن أبتكر غيرها.

ن.د: أنا مهتم جداً بالطباق الذي أراه بين تسلسلين. فثمة هذا المشهد مع الرجال الثلاثة في القدس…

م.د: أدعوهم ملوك القدس.

ن.د: نعم، أحبّهم. فهم يكافحون كلّ ما يحيط بهم. وثمة التسلسل مع ليلى، المرأة التي انتقلت من كندا إلى فلسطين للعيش مع زوجها نائل. فهي تتحدث عن أملها بأنّ الفلسطينيين حين يعودون إلى موطنهم، سيتمكّنون من تخطّي أثر الاحتلال.

م.د: إنها تشعر بالقلق حيالنا. حين تقطع يد أحد، لا يمكنك إعادتها. والخسارة كانت فادحة. وتنهي الحديث قائلة إنّ بعض الأشخاص يحاولون التشبّث بالقطع وصنع فسيفساء منها. أظن أنّ ليلى كانت صوتي في الفيلم. قصّتها مشابهة، من خلال الطريقة التي أحبّت فيها نائل، وتزوّجته، وعادت للمرة الأولى وأسّست منزلاً في فلسطين. كانت تحلم بكلّ الأمور التي تعيشها اليوم. لذا اتفقنا جيداً. وشعرت بأنّ لدينا أسئلة مشابهة، ومن الضروري أن تكون في الفيلم.

ن.د: شخصيتها ساحرة وهادئة، وتقول أموراً مثيرة للاهتمام.

م.د: جميعهم يفعل. وكذلك الرجال في القدس.

ن.د: نعم، بالرغم من أنهم في وضع مختلف. فهم يقاومون ولكن بطريقة مختلفة عن ليلى.

م.د: يقاوم كلّ شخص في الفيلم بطريقته الخاصة. فنائل يرفض القبول بأنّ هذا الاحتلال طبيعي ويخلق هذا العالم الجميل لابنته، ويتساءل عمّا يمكن قوله لطفل في هذا الوضع. يجب أن تخبر طفلك عن الحياة – عن الطيور، والفراشات والريح. فأنا نشأت على قصص جميلة عن أشجار الزيتون.

blog comments powered by Disqus

staging