المدوّنة

العودة الى القائمة

يعرض الآن في الدوحة: دجانغو بلا قيود

17 يناير 2013

بقلم ألكسندر وود

في السهول التي تشتد فيها الرياح وتنتشر فيها النتوءات الصخرية، تسير قافلة من تجّار العبيد الذين يجرون وراءهم رهائنهم. في خلفية المشاهد تصدح الموسيقى التي اعتدنا عليها في أفلام تارانتينو، لتضيف إلى أجواء الفيلم القديمة، وتنبؤنا بمشاهد القتل التي تنتظرنا، والسيناريو الحاد، في ظل غياب أي قانون. ليس كل مخرجٍ بقادرٍ على الابداع بهذا الشكل في اللعبة الاخراجية بينما يستعين بعناصر تاريخية لكتابة فيلم ينحاز إلى عبدٍ ذليل؛ لحسن الحظ، تارانتينو قادر على جمع المجد من كل أطرافه.

لا بد من الاشارة إلى أن جمالية الفيلم البصرية إضافة مناسبة جداً للعمل الكلي للمخرج الذي يتضمن استخداماً بارعاً لأطر كلاسيكية تُشعر المشاهد وكأنه في بيته، في هذه البيئة الغربية القديمة والمثيرة. من ناحية أخرى، من المهم أن نعرف بأن هذا العمل ليس فيلماً كلاسيكياً عن الغرب الأميركي، لا سيما وأنه يخوض في قصة دامية ملحمية تفوق توقعات المشاهد. ويجدر القول إن الفيلم لا يتطرأ بشكل مبطّن إلى أهوال العبودية، بل يخوض في هذا الحوار بشكل مباشر وبزخمٍ كامل، في قالب متنوّع من الفكاهة والرعب، ليكوّن قصة لن تقدر على نسيانها.

في هذا العمل، يلجأ تارانتينو إلى الاستخدام المتكرّر للتصوير من مسافة قريبة، للتركيز على التفاصيل الدقيقة لبعض اللحظات المعيّنة، من أجل التقرّب من المشاهد. مثلاً يركّز المشهد الذي يقوم فيه دكتور كينغ شولتز (كريستوف والتز) بصبّ الشراب لدجانغو (جايمي فوكس) ولنفسه، على التفاصيل الحميمة لفعل إحضار الكؤوس وصب الشراب؛ وهذا المثال الأوضح على الحميمية التي يخلقها تارانتينو عبر تركيزه على التفاصيل. هذه اللحظة تحديداً تذكرنا بمشهد آخر مشابه في فيلم “أوغاد مجهولون“، حيث يقوم الكولونيل هانز لاندا بإطعام شوسانا درايفوس (ميلاني لوران) التحلية في مقهى فرنسي. إن مشاهد مماثلة تتمكن من تهيأة أجواء الأحداث التي سينغمس فيها الجمهور وتكشف عن تجربة مليئة بالتفاصيل بانتظارهم؛ تجربة مليئة بالدم والفكاهة.

في بعض المشاهد، نرى دجانغو في لباس أزرق فاتح، مما يبعده عن أجواء الفيلم لإبراز قضية “العرق”. فحين تشاهد راعي بقر بلباس أزرق فاتح، يقطع المزرعة على حصانه على أنغام موسيقى الراب في خلفية المشهد، يتضح لك بأن الفيلم يتقصّد المزج بين الحقبات، ليقدّم الحداثة إلى جانب التاريخ. ومن خلال اللجوء إلى هذه التقنية، يتمكن تارانتينو من تصحيح التاريخ، واضعاً بطلاً أسود في مقدمة عصر سادت فيه العبودية. نرى هذا النوع من التصحيح التاريخي أيضاً في فيلم “أوغاد مجهولون“، حيث يموت هتلر قبل نهاية الحرب العالمية الثانية. إن إعادة صياغة التاريخ تجعل كل شيء ممكناً، وتسمح لبطل أسود قوي بأن يسعى للحصول على التعويض ممن حوّلوه إلى رهينة وعبد لديهم، قبل صدور قرار منع العبودية.

إلى جانب هذه الصياغة الجديدة للتاريخ، نجد الاستخدام غير المبرّر لمصطلحات مثيرة للجدل، استُخدمت في الماضي لتأجيج الكراهية، لكن خضعت للتهذيب فيما بعد في على يد العديد من الجماعات والفنانين. فمثلاً مصطلح “عبد” مستخدم بكثرة في الفيلم إلى درجة يصبح معها أمراً اعتيادياً وهو أمر درج في تلك الحقبة. من ناحية أخرى، ندرك بأن الاستخدام المفرط لهذا المصطلح يجرّده من مستوى التحقير الذي يلتصق به. وفي موسيقى الراب المستخدمة بشكل متكرّر في الفيلم، يمكن ربط مصطلح “عبد” مع عملية إعادة استخدامه وتجريده من معناه. وبالنظر إلى استخدام تارانتينو لموسيقى الراب والاكثار من استخدام مصطلح “عبد“، ندرك دون أي مجال للشك بأنه يلقي الضوء على حقبة تاريخية معيّنة، لا تزال آثارها حتى أيامنا هذه في مجتمعاتنا الحديثة.

وعبر استخدام هذه المصطلحات الثقيلة، يقصد تارانتينو أيضاً ربط الفكاهة بقضية تعطيل العنصرية وكل ما يرافق ذلك من أمور أخرى. في إحدى المشاهد، تقوم عصابة من الرجال المقنعين، بمناقشة نوعية فجوات العيون في أقنعتهم البيضاء. يستمر هذا النقاش عدة دقائق، ليتمكن من إيصال فكرة عبثية هذا النوع من الحوارات، بينما يرتبط بهؤلاء الذين يوشكون على ارتكاب جريمة بدافع الكراهية. هذا المشهد فعلاً مثير للضحك، وعبره يريد تارانتينو أن يضحك الجمهور على العناصر السخيفة التي يتكوّن منها التاريخ الغربي بمجمله. ثم يحل مكان الفكاهة الهدّامة، اللجوء إلى استخدام العنف الذي يريد تذكير المشاهد بأنه وعلى الرغم من الفكاهة، فإن الفيلم غارق أيضاً في أهوال الماضي.

بالطبع، تارانتينو معروف باستخدامه للعنف المفرط، لذلك الفيلم يحتوي على مشاهد شنيعة لدرجة أنها تبدو وكأنها رسم كاريكاتوري للواقع. نرى هذا النوع من العنف في أفلام كيل بيل (اقتل بيل) و أوغاد مجهولون ويعتبر من المسلمات في أفلام المخرج. في المشهد الأخير من الفيلم، نرى انفجاراً يقذف بلارا لي كاندي فيتزويلي ( لورا كايوويت ) إلى غرفة أخرى بشكل درامي كبير، وهو أسلوب اعتدنا مشاهدته في أعمال تارانتينو، دون أن يتسبب للجمهور بالتقزّز. ومع ذلك، يحتوي الفيلم على مشاهد عنف مقزّزة، لا سيما ذلك المشهد الذي يُظهر كلباً يمزّق رجلاً. أما مستوى العنف في مشهد المقدمة، فلا يلجأ إلى استخدام الغرافيكس بالقدر الذي يبدو عليه. إن استخدام هذه التقنية يضع هذا التصوير القوي لأهوال العبودية في محط التساؤل- لا سيما أنها لا تقوم بالكثير لوضع حدّ لها. يتمتع تارانتينو بذكاء حاد في استخدام هذه التقنية السينمائية لأنها تعكس تجربة العبودية في الغرب الأميركي.

ولا بد من الاشارة إلى أن نوعية الاخراج في كفّة وأحداث الفيلم بأكمله في كفّة أخرى، حيث يلجأ تارانتينو كالعادة لاستخدام شريط المشاهد المتحرك على جانب الشاشة، والمشاهد البطيئة، بالاضافة إلى استخدام الطباعة. وعلى الرغم من أن العديد اتهموا الفيلم بكونه مبالغ في العنف، قيل الكثير أيضاً في إلقاء الفيلم الضوء على نظرية العبودية وحقبة ما بعد الاستعمار.

مرة أخرى يأجّج تارانتينو الجدل حوله، كالمعتاد، ويتمكن من صنع فيلم مسلّ ويتحدّى توقعات المشاهد في الوقت ذاته. لا بد من الاشارة إلى أن المزج ما بين الرعب والفكاهة والأحداث التاريخية ليس بالمهمة السهلة، لكن تارانتينو يقتحم هذا المجال بحساسية دقيقة، تسمح له بالحفاظ على أسلوبه الفريد، بينما يطرح أمام المشاهد الكثير من الأسئلة الهامة. هذا الفيلم تاريخي، وساخر، وعنيف، عن حقبة لا يمكن نسيانها في تاريخ البشر. إنه أمر، قلة من المخرجين الآخرين قادرين على إصابته في عمل واحد.

video#1

blog comments powered by Disqus

staging