بقلم كمام المعاضيد

خلال زيارتي لمهرجان الجزيرة الدولي التاسع للأفلام التسجيلية، تهتُ بين الصالات العديدة التي تعرض أفلاماً من جميع أنحاء العالم. لحسن حظي ودائماً ما تكون الصدفة وراء اكتشافنا للأعمال العظيمة، دخلت لمشاهدة فيلم “من قلب سريبرينتشا” للمخرج جيوسيبي كارييري. إنه فيلم رائع يصوّر حياة البوسنيين ما بعد الحرب بالاضافة إلى الناجين من مجزرة سريبرينيتشا وهم يحاولون التعايش مع آلام الذكريات المريرة.

تروي لنا نساء سريبرينيتشا في الفيلم كل ما يتذكرنه عن تلك الليلة المأساوية التي أفقن فيها على وقع هجوم الصربي الذين عمدوا إلى قتل الرجال والصبيان وتعذيب أعداد لا تحصى من النساء. غير أن اهتمام الفيلم يتركّز أكثر على عقدٍ كامل من الزمن قضته النسوة في البحث في أرجاء الأحراش المحيطة، عن بقايا أبنائهن وأزواجهن. لم يكتف الصرب بارتكاب أبشع المجازر في التاريخ الأوروبي، بل عمدوا أيضاً إلى التخلّص من بقايا ضحاياهم في مواقع متفرّقة، كي لا يتمكن أحد من توثيق الجريمة- أو حتى إكرام الأموات بمنحهم دفناً لائقاً.

نستمع إلى كل تلك القصص المؤثرة عن عائلات تشتّت شملها بعد المجزرة ويجتاحنا شعور سلبي سرعان ما يتبدّد ببعض الأمل. فلقد تم تأسيس مركز طبي متخصّص بجمع العظام المبعثرة لضحايا المجزرة وتحليل حمضها النووي لكي تتمكن العائلات من منحها دفناً لائقاً والشعور ببعض السلام الداخلي. بهذه الطريقة تم التعرّف على أكثر من 8000 جثّة وإعادتها إلى عائلاتها. وهكذا نتمكن من مشاهدة السلام في عيون النسوة اللواتي عثرن على أبنائهن وأزواجهن. ومع أن بداية الفيلم حزينة وأليمة غير أنه ينتهي بشعور عميق بالأمل يعمّ أجواء هذه البلدة.

نتنقّل في الفيلم ما بين تأوهات الأمهات والصور المخيفة للغابات الساكنة والجثث الكثيرة التي تقبع تحت أغصانها المتشابكة، في قبور مجهولة. إنها مشاهد توحي بما يفيض في قلوب الأمهات، بينما يزيد الأسلوب الاخراجي الشاعري من حدة هذه المشاعر ويستحوذ على كيان المشاهد، ليشعره برغبة شديدة في مشاركة تلك النسوة في بحثهن عن السلام الداخلي.

بعد انتهاء الفيلم من العرض، قابلنا المخرج كارييري وشرح لنا أن عمله لا يهدف للاضاءة على جرائم الحرب. إنه فيلم حول المشاعر التي تملأ قلب الأم واستعدادها لسلوك طريق طويل من أجل العثور على ابنها المفقود. قال لنا أيضاً إن الجميع يظن أنه مع انتهاء النزاعات الحربية، تنتهي المأساة، لكن الحرب تبقى عالقة في ذاكرة كل من عاشوها ولا يجب نسيانها. “في قلب سريبرينيتشا” سيلقى من دون شك إعجاب الجماهير من جميع أنحاء العالم