المدوّنة

العودة الى القائمة

نقد سينمائي: باب الحديد

28 أغسطس 2011

بقلم ريم صالح، قسم الاعلام الجديد، مؤسسة الدوحة للأفلام

الفيلم: باب الحديد
العام: 1958
إخراج: يوسف شاهين
بطولة: فريد شوقي، هند رستم ويوسف شاهين
النوع: دراما، رومانسية، آرت هاوس وعاملي

ترسم رائعة يوسف شاهين (باب الحديد) صورة سوداوية للفئة المحرومة والفقيرة في إحدى مناطق القاهرة الأكثر صخباً في الخمسينات: محطة القطار. ويروي الفيلم قصة قنّاوي (الذي يلعب دوره يوسف شاهين نفسه)، بائع الصحف المتجوّل الذي يعاني من هوس مرضي بالنساء. ويقع في غرام أكثرهن إثارة، وهي هنومة (هند رستم) التي تبيع المرطبات. تتأثر هي بإعجابه بها، لكنها ترسل له إشارات خاطئة تغضبه كثيراً. نكتشف في الوقت ذاته، أنها مخطوبة إلى أبو سريع (فريد شوقي)، وهو رجل قوي وحمّال شجاع، يقود ثورة ضد عملية استغلال العمال. في وسط مثلّث العشق هذا، تظهر لنا العديد من الحبكات الأخرى التي تصوّر وجهة نظر شاهين الجريئة واللاذعة بخصوص مجتمع بلده الحبيب.

إن اختيار محطة قطار القاهرة كالموقع الأساسي للفيلم، يسمح بتجسيد مستمر للواقع من زوايا مختلفة في هذا العالم المصغّر الذي يعكس المجتمع المصري متعدد الثقافات. وتبدو المحطة أكثر من موقع، بل تتخطاه لتعبّر عن موقف يستحق منا التفكير، مع كل مار يجسّد موقفاً رائعاً لشخصية يوسف شاهين الثورية.

كل شخص ينزل من القطار يترك قصة وراءه. وكأن محطة القطار هي عقل شاهين، وهؤلاء المسافرين هم أفكاره.. بعضهم يمثّل الخيانة، وآخرون لديهم دروس أفضل ليبشّروا بها – كالمجموعة النسائية التي تلقي خطابات بينما تلبس بذلات رجالية. أما أبو سريع فهو يستثمر جاذبيته لخدمة زملائه، الذين يطالبون بظروف أفضل في العمل. هذه الحبكات الجانبية غير المطورة تعكس المثل العليا في مصر في ذلك الزمن.

غير أن وجهة نظر الفيلم شديدة السوداوية. إنها تدور حول هؤلاء الذين يعيشون في محيط المحطة حياةً قاسية. بعضهم يعمل حمالاً للحقائب، والبعض الآخر يعمل في بيع أي شيء يخطر له، لكنهم يبدون دائماً محبين للحياة، وهو ماركة مسجلة للثقافة المصرية. نلك السكة الحديدة الصاخبة تحيي أيامهم، وقد أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من هويتها.

من هذه الفئة العاملة، يأتي قناوي، رجل أعرج، يعمل لدى تاجر يشفق عليه. ويقدم له التاجر مكاناً لينام فيه إلى جانب هذا العمل، وبعد فترة قصيرة، تمتلىء جدران هذه الغرفة بصور نساء عاريات. يشعل هوسه هذا في النساء (وهو أحد المواضيع الرئيسية في الفيلم)، هنومة الشبقة، التي تستخدم الاثارة من أجل بيع المرطبات. إنها لذة وجيزة تداعب أحاسيسه، لكنها لسوء الحظ، هدف يستحيل الوصول إليه. وفي مشهد لا يُنسى يذكرنا بكل من المخرجيْن فلليني وأنطونيوني، نرى هنومة في مكان مليء بالرجال، وهي ترقص على أنغام موسيقى الروك أند رول، مشعلة رغبتهم في النساء والصودا. إنها تستخدم أنوثتها في خدمة عملها؛ ترقص هنا، تبتسم هناك، بينما يدرك المنافسون الحسّاد أنهم لن يقدروا على التفوق على هذا الاغراء الجنسي. وبعد أن يسحره مرأى هنومة، ينسى قناوي كل شيء من حوله ويبدأ بالرقص بشكل جنوني، مستمداً هذه الطاقة من أصغر نظرة ترسلها إليه. ويشبه هذا المشهد في تجسيده الشوفيني مشهداً آخر في فيلم لافنتورا للمخرج أنطونيوني، حيث نرى فتاة تعمل في الدعارة وسط رجال قبيحين يكافحون من أجل نيل نظرة واحدة فقط. غير أن هنومة من ناحية أخرى، تعي هوس الرجال بسحرها، وتستخدمه في بيع بضاعتها، ولتتمكن من كسب عيشها.

شاهدوا هذا المشهد الرائع الذي يمثّل فيه يوسف شاهين:

للترجمة العربية اضغط على

‘باب الحديد’ هو فيلم يتميّز بأنه مصوّر في موقع واحد، يمتلئ بالمواضيع عن الطبقة العاملة، وهو أسلوب سينمائي مقتبس عن الأسلوب الواقعية الجديدة في السينما الايطالية، الذي يُظهر المعاناة الاقتصادية والنفسية التي انتشرت في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية. في هذا الأداء اللامع لكل من شاهين وهند رستم الأسطورية، والتي كان لقبها مارلين مونرو الشرق الأوشط والتي توفيت، للأسف، منذ أسبوعيْن، نتعلم أن صدى ووقع الأخلاقية يصل بشكل مختلف حين لا يتم إشباع الاحتياجات الجسدية والحياتية الضرورية.

وتلعب محطة القطار دور الشاهد الصامت والمليء بالقصص. فبينما نتنقّل بين الأبطال الرئيسيين للفيلم، يمدّنا شاهين ببعض مواضيعه المفضّلة التي يعود للتطرق إليها في أفلام لاحقة، لا سيما أفكاره عن الأصوليين الاسلاميين، وحقوق المرأة وأحوال العمّال… وكلها مواضيع اجتماعية طبعت الحقبة الناصرية. وكان فيلم باب الحديد هو النتيجة المباشرة لجيل تغذى على المبادئ المثالية التي تلاشت مع الزمن. وكان المخرج المصري خالد يوسف قد تحدث إلى مؤسسة الدوحة للأفلام حول وجهات نظر شاهين السياسية والاجتماعية.

للترجمة العربية اضغط على

تجدر الاشارة إلى أن فيلم ‘باب الحديد’ وضع شاهين على رأس قائمة المخرجين. هذا الفيلم ليس فقط أحد أضخم إنجازاته، لكنه دراسة دقيقة للطبيعة والأخلاق البشرية في أشد حالات الفقر والحاجة. ‘باب الحديد’ هو من النوع الذي يذكّرنا بالسبب الذي دفع شاهين لصناعة الأفلام منذ البداية، فزرع البذرة الأولى التي كبرت مع الزمن وكوّنت شخصيته كمخرج سينمائي.

blog comments powered by Disqus

staging